فصل: سنة ست وثمانين وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر وقعة أخرى ووقعة العرب:

ثم إن المسلمين نهضوا إلى الفرنج من الغد وهو سادس شعبان عازمين على بذل جهدهم، واستنفاد وسعهم في اسئصالهم فتقدموا على تعبئتهم، فرأوا الفرنج حذرين محتاطين، قد ندموا على ما فرطوا فيه بالأمس، وهم قد حفظوا أطرافهم ونواحيهم، وشرعوا في حفر خندق يمنع من الوصول إليهم، فألح المسلمون عليهم في القتال، فلم يتقدم الفرنج إليهم، ولا فارقوا مرابضهم؛ فلما رأى المسلمون ذلك عادوا عنهم.
ثم إن جماعة من العرب بلغهم أن الفرنج تخرج من الناحية الأخرى إلى الاحتطاب وغيره من أشغالهم، فكمنوا لهم في معاطف النهر ونواحيه سادس عشر شعبان، فلما خرج جمع من الفرنج على عادتهم حملت عليهم العرب، فقتلوهم عن آخرهم، وغنموا ما كان معهم، وحملوا الرؤوس إلى صلاح الدين، فأحسن إليهم، وأعطاهم الخلع.

.ذكر الوقعة الكبرى على عكا:

لما كان بعد هذه الوقعة المذكورة بقي المسلمون إلى العشرين من شعبان، كل يوم يغادرون القتال مع الفرنج ويرواحونه، والفرنج لا يظهرون من معسكرهم ولا يفارقونه، ثم إن الفرنج اجتمعوا للمشورة، فقالوا: إن عسكر مصر لم يحضر والحال مع صلاح الدين هكذا، فكيف يكون إذا حضر، والرأي أننا نلقي المسلمين غداً لعلنا نظفر بم قبل اجتماع العساكر والأمداد إليهم.
وكان كثير من عسكر صلاح الدين غائباً عنه، بعضها مقابل أنطاكية ليردوا عادية بيمند صاحبها عن أعمال حلب، وبعضها في حمص مقابل طرابلس لتحفظ ذلك الثغر أيضاً، وعسكر في مقابل صور لحماية ذلك البلد، وعسكر بمصر يكون بثغر دمياط والإسكندرية وغيرهما، والذي بقي من عسكر مصر كانوا لم يصلوا لطول بيكارهم، كما ذكرناه قبل، وكان هذا مما أطمع الفرنج في الظهور إلى قتال المسلمين.
وأصبح المسلمون على عادتهم، منم من يتقدم إلى القتال، ومنهم من هو في خيمته، ومنهم من قد توجه في حاجته من زيارة صديق وتحصيل ما يحتاج إليه هو وأصحابه ودوابه، إلى غير ذلك، فخرج الفرنج من معسكرهم كأنهم الجراد المنتشر، يدبون على وجه الأرض، قد ملأوها طولاً وعرضاً، وطلبوا ميمنة المسلمين وعليها تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، فلما رأى الفرنج نحوه قاصدين حذر هو وأصحابه، فتقدموا إليه، فلما قربوا منه تأخر عنهم.
فلما رأى صلاح الدين الحال، وهو في القلب، أمد تقي الدين برجال من عنده ليتقوى بهم، وكان عسكر ديار بكر وبعض الشرقيين في جناح القلب، فلما رأى الفرنج قلة الرجال في القلب، وأن كثيراً منهم قد سار نحو الميمنة مدداً لهم، عطفوا على القلب، فحملوا حملة رجل واحد، فاندفعت العساكر بين أيديهم منهزمين، وثبت بعضهم، فاستشهد جماعة منهم كالأمير مجلى بن مروان والظهير أخي الفقيه عيس، وكان والي بعضهم، فاستشهد جماعة منهم كالأمير مجلى بن مروان والظهير أخي الفقيه عيسى، وكان والي البيت المقدس قد جمع بين الشجاعة والعلم والدين، وكالحاجب خليل الهكاري وغيرهم من الشجعان الصابرين في مواطن الحرب، ولم يبق بين أيديهم في القلب من يردهم، فقصدوا التل الذي عليه خيمة صلاح الدين، فقتلوا من مروا به، ونهبوا، وقتلوا عند خيمة صلاح الدين جماعة، منهم شيخنا جمال الدين أبو علي بن رواحة الحموي، وهو من أهل العلم، وله شعر حسن، وما ورث الشهادة من بعيد، فإن جده عبد الله بن رواحة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله الروم يوم مؤتة، وهذا قتله الفرنج يوم عكا، وقتلوا غيره، وانحدروا إلى الجانب الآخر من التل، فوضعوا السيف فيمن لقوه، وكان من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الفرنج لم يلقوا خيمة صلاح الدين، ولو لقوها لعلم الناس وصولهم إليها، وانهزام العساكر بين أيديهم، فكانوا انهزموا أجمعون.
ثم إن الفرنج نظروا وراءهم، فرأوا أمدادهم قد انقطعت عنهم، فرجعوا خوفاً أن ينقطعوا عن أصحابهم، وكان سبب انقطاعهم أن الميمنة وقفت مقابلتهم، فاحتاج بعضهم أن يقف مقابلها، وحملت ميسرة المسلمين على الفرنج، فاشتغل المدد بقتال من بها عن الاتصال بأصحابهم، وعادوا إلى طرف خنادقهم، فحملت الميسرة على الفرنج، الواصلين إلى خيمة صلاح الدين، فصادفوهم وهم راجعون، فقاتلوهم، وثار بهم غلمان العسكر.
وكان صلاح الدين لما انهزم القلب قد تبعهم يناديهم، ويأمرهم بالكرة، ومعاودة القتال، فاجتمع معه منهم جماعة صالحة، فحمل بهم على الفرنج من وراء ظهورهم وهم مشغولين بقتال الميسرة، فأخذتهم سيوف الله من كل جانب، فلم يفلت منهم أحد، بل قتل أكثرهم، وأخذ الباقون أسرى، وفي جملة من أسر مقدم الداوية الذي كان قد أسره صلاح الدين وأطلقه، فلما ظفر به الآن قتله.
وكانت عدة القتلى، سوى من كان إلى جانب البحر، نحو عشرة آلاف قتيل، فأمر بهم، فألقوا في النهر الذي يشرب الفرنج منه؛ وكان عامة القتلى من فرسان الفرنج، فإن الرجالة لم يلحقوهم، وكان في جملة الأِسرى ثلاث نسوة فرنجيات كن يقاتلن على الخيل، فلما أسرن، وألقي عنهن السلاح عرفن أنهن نساء.
وأما المنهزمون من المسلمين، فمنهم من رجع من طبرية، ومنهم من جاز الأردن وعاد، ومنهم من بلغ دمشق، ولولا أن العساكر تفرقت في الهزيمة لكانوا بلغوا من الفرنج من الاستئصال، والإهلاك، مرادهم، على أن الباقين بذلوا جهدهم، وجدوا في القتال وصمموا على الدخول مع الفرنج إلى معسكرهم لعلهم يفزعون منهم، فجاءهم الصريخ بأن رحالهم وأموالهم قد نهبت، وكان سبب هذا النهب أن الناس لما رأوا الهزيمة حملوا أثقالهم على الدواب، فثار بهم أوباش العسكر وغلمانه، فنهبوه وأتوا عليه، وكان في عزم صلاح الدين أن يباكرهم القتال والزحف، فرأى اشتغال الناس بما ذهب من أموالهم، وهم يسعون في جمعها وتحصيلها، فأمر بالنداء بإحضار ما أخذ، فأحضر منه ما ملأ الأرض من المفارش، والعيب المملوءة والثياب والسلاح وغير ذلك، فرد الجميع على أصحابه، ففاته ذلك اليوم ما أراد، فسكن روع الفرنج، وأصلحوا شأن الباقين منهم.

.ذكر رحيل صلاح الدين عن الفرنج وتمكنهم من حصر عكا:

لما قتل من الفرنج ذلك العدد الكثير، جافت الأرض من نتن ريحهم، وفسد الهواء والجو، وحدث للأمزجة فساد، وانحرف مزاج صلاح الدين، وحدث له قولنج مبرح كان يعتاده، فحضر عنده الأمراء، وأشاروا عليه بالانتقال من ذلك الموضع، وترك مضايقة الفرنج، وحسنوه له، وقالوا: قد ضيقنا على الفرنج، ولو أرادوا الانفصال عن مكانهم لم يقدروا، والرأي أننا نبعد عنهم بحيث يتمكنون من الرحيل والعود، فإن رحلوا، وهو ظاهر الأمر، فقد كفينا شرهم وكفوا شرنا، وإن أقاموا عاودنا القتال ورجعنا معهم إلى ما نحن فيه، ثم إن مزاجك منحرف، والألم شديد، ولو وقع إرجاف لهلك الناس، والرأي على كل تقدير البعد عنهم.
ووافقهم الأطباء على ذلك، فأجابهم إليه إلى ما يريد الله يفعله: {وإذا أراد الله بقوم سواء فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ} الرعد 11، فرحلوا إلى الخروبة رابع شهر رمضان وأمر من بعكا من المسلمين بحفظها، وإغلاق أبوابها، والاحتياط، وأعلمهم بسبب رحيله.
فلما رحل هو وعساكره أمن الفرنج وانبسطوا في تلك الأرض، وعادوا فحصروا عكا، وأحاطوا بها من البحر إلى البحر، ومراكبهم أيضاً في البحر تحصرها، وشرعوا في حفر الخندق، وعمل السور من التراب الذي يخرجونه من الخندق، وجاؤوا بما لم يكن في الحساب؛ وكان اليزك كل يوم يوافقهم، وهم لا يقاتلون، ولا يتحركون، إنما هم مهتمون بعمل الخندق والسور عليهم ليتحصنوا به من صلاح الدين، إن عاد إلى قتالهم، فحينئذ ظهر رأي المشيرين بالرحيل.
وكان اليزك كل يوم يخبرون صلاح الدين بما يصنع الفرنج، ويعظمون الأمر عليه، وهو مشغول بالمرض، لا يقدر على النهوض للحرب، وأشار عليه بعضهم بأن يرسل العساكر جميعها إليهم ليمنعهم من الخندق والسور، ويقاتلوهم، ويتخلف هو عنهم، فقال: إذا لم أحضر معهم لا يفعلون شيئاً، وربما كان من الشر أضعاف ما نرجوه من الخير؛ فتأخر الأمر إلى أن عوفي، فتمكن الفرنج وعملوا ما أرادوا، وأحكموا أمورهم، وحصنوا نفوسهم بما وجدوا إليه السبيل، وكان من بعكا يخرجون إليهم كل يوم، ويقاتلونهم، وينالون منهم بظاهر البلد.

.ذكر وصول عسكر مصر والأسطول المصري في البحر:

في منتصف شوال وصلت العساكر المصرية، ومقدمها الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب، فلما وصل قويت نفوس الناس به وبمن معه، واشتدت ظهورهم، وأحضر معه من آلات الحصار، من الدرق والطارقيات والنشاب والأقواس، شيئاً كثيراً، ومعهم من الرجالة الجم الغفير، وجمع صلاح الدين من البلاد الشامية راجلاً كثيراً، وهو على عزم الزحف إليهم بالفارس والراجل.
ووصل بعده الأسطول المصري، ومقدمه الأمير لؤلؤ، وكان شهماً، شجاعاً، مقداماً، خبيراً بالبحر والقتال فيه، ميمون النقيبة، فوصل بغتة، فوقع على بطسة كبيرة للفرنج، فغنمها، وأخذ منها أموالاً كثيرة وميرة عظيمة، فأدخلها إلى عكا، فسكنت نفوس من بها بوصول الأسطول وقوي جنانهم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في صفر، خطب لولي العهد أبي نصر محمد بن الخليفة الناصر لدين الله ببغداد، ونثرت الدنانير والدراهم، وأرسل إلى البلاد في إقامة الخطبة، ففعل ذلك.
وفيها، في شوال، ملك الخليفة تكريت، وسب ذلك أن صاحبها، وهو الأمير عيسى، قتله إخوته، وملكوا القلعة بعده، فسير الخليفة إليهم عسكراً فحصروها وتسلموها، ودخل أصحابه إلى بغداد فأعطوا أقطاعاً.
وفيها، في صفر، فتح الرباط الذي بناه الخليفة بالجانب الغربي من بغداد، وحضر الخلق العظيم، فكان يوماً مشهوداً.
وفي هذه السنة، في رمضان، مات شرف الدين أبو سعد عبد الله بن محمد ابن هبة الله بن أبي عصرون، الفقيه الشافعي بدمشق، وكان قاضيها، وأضر، وولي القضاء بعده ابنه، وكان الشيخ من أعيان الفقهاء الشافعية.
وفيها، في ذي القعدة، توفي الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري بالخروبة مع صلاح الدين، وهو من أعيان أمراء عسكره، ومن قدماء الأسدية، وكان فقيهاً، جندياً، شجاعاً، كريماً، ذا عصبية ومروءة، وهو من أصحاب الشيخ الإمام أبي القاسم بن البرزي، تفقه عليه بجزيرة ابن عمر، ثم اتصل بأسد الدين شيركوه فصار إماماً له، فرأى من شجاعته ما جعل له أقطاعاً، وتقدم عند صلاح الدين تقدماً عظيماً.
وفيها، في صفر توفي شيخنا أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن وهبان، المعروف بابن أفضل الزمان، بمكة، وكان رحمه الله عالماً متبحراً في علوم كثيرة، خلاف فقه مذهبه والأصولين، والحساب والفرائض، والنجوم، والهيئة، والمنطق، وغير ذلك، وختم أعماله بالزهد، ولبس الخشن، وأقام بمكة، حرسها الله تعالى، مجاوراً، فتوفي بها، وكان من أحسن الناس صحبة وخلقاً.
وفيها، في ذي القعدة، مات أبو طالب المبارك بن المبارك بن المبارك الكرخي مدرس النظامية، وكان من أصحاب أبي الحسن بن الخل، وكان صالحاً خيراً له عند الخليفة والعامة حرمة عظيمة، وجاه عريض، وكان حسن الخط يضرب به المثل. ثم دخلت:

.سنة ست وثمانين وخمسمائة:

.ذكر وقعة الفرنج واليزك وعود صلاح الدين إلى منازلة الفرنج:

قد ذكرنا رحيل صلاح الدين عن عكا إلى الخروبة لمرضه، فما برأ أقام بمكانه إلى أن ذهب الشتاء؛ وفي مدة مقامه بالخروبة كان يزكه وطلائعه لا تنقطع عن الفرنج.
فلما دخل صفر من سنة ست وثمانين وخمسمائة سمع الفرنج أن صلاح الدين قد سار للصيد، ورأى العسكر الذي ي اليزك عندهم قليلاً، وأن الوحل الذي في مرج عكا كثير يمنع من سلوكه من أراد أن ينجد اليزك، فاغتنموا ذلك، وخرجوا من خندقهم على اليزك وقت العصر، فقاتلهم المسلمون، وحموا أنفسهم بالنشاب، وأحجم الفرنج عنهم، وحتى فني نشابهم، فحملوا عليهم حينئذ حملة رجل واحد، فاشتد القتال، وعظم الأمر، وعلم المسلمون أنه لا ينجيهم إلا الصبر وصدق القتال، فقاتلوا قتال مستقتل إلى أن جاء الليل، وقتل من الفريقين جماعة كثيرة، وعاد الفرنج إلى خندقهم.
ولما عاد صلاح الدين إلى المعسكر سمع خبر الوقعة، فندب الناس إلى نصر إخوانهم، فأتاه الخبر أن الفرنج عادوا إلى خندقهم، فأقام، ثم إنه رأى الشتاء قد ذهب، وجاءته العساكر من البلاد القريبة منه دمشق وحمص وحماة وغيرها، فتقدم من الخروبة نحو عكا، فنزل بتل كيسان، وقاتل الفرنج كل يوم ليشغلهم عن قتال من بعكا من المسلمين، فكانوا يقاتلون الطائفين ولا يسأمون.

.ذكر إحراق الأبراج ووقعة الأسطول:

كان الفرنج، في مدة مقامهم على عكا، قد عملوا ثلاثة أبراج من الخشب عالية جداً، طول كل برج منها في السماء ستون ذراعاً، وعملوا كل برج منها خمس طبقات، كل طبقة مملوءة من المقاتلة، وقد جمعوا أخشابها من الجزائر، فإن مثل هذه الأبراج العظيمة لا يصلح لها من الخشب إلا القليل النادر، وغشوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنع النار من إحراقها، وأصلحوا الطرق لها، وقدموها نحو مدينة عكا من ثلاث جهات، وزحفوا بها في العشرين من ربيع الأول، فأشرفت على السور، وقاتل من بها من عليه، فانكشفوا، وشرعوا في طم خندقها، فأشرف البلد على أن يملك عنوة وقهراً.
فأرسل أهله إلى صلاح الدين إنساناً سبح في البحر، فأعلمه ما هم فيه من الضيق، وما قد أشرفوا عليه من أخذهم وقتلهم، فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنج وقاتلوهم من جميع جهاتهم قتالاً عظيماً دائماً يشغلهم عن مكاثرة البلد، فافترق الفرنج فرقتين: فرقة تقاتل صلاح الدين، وفرقة تقاتل أهل عكا، إلا أن الأمر قد خف عمن بالبلد، ودام القتال ثمانية أيام متتابعة، آخرها الثامن والعشرون من الشهر، وسئم الفريقان القتال، وملوا منه لملازمته ليلاً ونهاراً، والمسلمون قد تيقنوا استيلاء الفرنج على البلد، لما رأوا من عجز من فيه عن دفع الأبراج، فإنهم لم يتركوا حيلة إلا وعملوها، فلم يفد ذلك ولم يغن عنهم شيئاً، وتابعوا رمي النفط الطيار عليها، فلم يؤثر فيها، فأيقنوا بالبوار والهلاك، فأتاهم الله بنصر من عنده وإذن في إحراق الأبراج.
وكان سبب ذلك أن إنساناً من أهل دمشق كان مولعاً بجمع آلات النفاطين، وتحصيل عقاقير تقوي عمل النار، فكان من يعرفه يلومه على ذلك وينكره عليه، وهو يقول: هذه حالة لا أباشرها بنفسي إنما أشتهي معرفتها، وكان بعكا لأمر يريده الله، فلما رأى الأبراج قد نصبت على عكا شرع في عمل ما يعرفه من الأدوية المقوية للنار، بحيث لا يمنعها شيء من الطين والخل وغيرهما، فلما فرغ منها حضر عند الأمير قراقوش، وهو متولي الأمور بعكا والحاكم فيها، وقال له: تأمر المنجنيقي أن يرمي في المنجنيق المحاذي لبرج من هذه الأبراج ما أعطيه حتى أحرقه.
وكان عند قراقوش من الغيظ والخوف على البلد ومن فيه ما يكاد يقتله، فازداد غيظاً بقوله وحرد عليه، فقال له: قد بالغ أهل هذه الصناعة في الرمي بالنفط وغيره فلم يفلحوا؛ فقال له من حضر: لعل الله تعالى قد جعل الفرنج على يد هذا، ولا يضرنا أن نوافقه على قوله؛ فأجابه إلى ذلك، وأمر المنجنيقي بامتثال أمره، فرمى عدة قدور نفطاً وأدوية ليس فيها نار، فكان الفرنج إذا رأوا القدر لا يحرق شيئاً يصيحون، ويرقصون، ويلعبون على سطح البرج، حتى إذا علم أن الذي ألقاه قد تمكن من البرج، ألقى قدراً مملوءة وجعل فيها النار فاشتعل البرج، وألقى قدراً ثانية وثالثة، فاضطرمت النار في نواحي البرج، وأعجلت من في طبقاته الخمس عن الهرب والخلاص، فاحترق هو ومن فيه، وكان فيه من الزرديات والسلاح شيء كثير.
وكان طمع الفرنج بما رأوا أن القدور الأولى لا تعمل شيئاً يحملها على الطمأنينة وترك السعي في الخلاص، حتى عجل الله لهم النار في الدنيا قبل الآخرة، فلما احترق البرج الأول انتقل إلى الثاني، وقد هرب من فيه لخوفهم، فأحرقه، وكذلك الثالث، وكان يوماً مشهوداً لم ير الناس مثله، والمسلمون ينظرون ويفرحون، وقد أسفرت وجوههم بعد الكآبة فرحاً بالنصر وخلاص المسلمين من القتل لأنهم ليس فيهم أحد ألا وله في البلد إما نسيب وإما صديق.
وحمل ذلك الرجل إلى صلاح الدين فبذل له الأموال الجزيلة والإقطاع الكثير فلم يقبل منه الحبة الفرد، وقال: إنما عملته لله تعالى، ولا أريد الجزاء إلا منه.
وسيرت الكتب إلى البلاد بالبشائر، وأرسل يطلب العساكر الشرقية، فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، وهو صاحب سنجار وديار الجزيرة، ثم أتاه علاء الدين ولد عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، سيره أبوه مقدماً على عسكره وهو صاحب الموصل، ثم وصل زين الدين يوسف صاحب إربل؛ وكان كل منهم إذا وصل يتقدم إلى الفرنج بعسكره، وينضم إليه غيرهم، ويقاتلونهم، ثم ينزلون.
ووصل الأسطول من مصر، فلما سمع الفرنج بقربه منهم جهزوا إلى طريقه أسطولاً ليلقاه ويقاتله، فركب صلاح الدين في العساكر جميعها، وقاتلهم من جهاتهم ليشتغلوا بقتاله عن قتال الأسطول ليتمكن من دخول عكا، فلم يشتغلوا عن قصده بشيء، فكان القتال بين الفريقين براً وبحراً، وكان يوماً مشهوداً لم يؤرخ مثله، وأخذ المسلمون من الفرنج مركباً بما فيه من الرجال والسلاح، وأخذ الفرنج من المسلمين مثل ذلك، إلا أن القتل في الفرنج كان أكثر منه في المسلمين، ووصل الأسطول الإسلامي سالماً.

.ذكر وصول ملك الألمان إلى الشام:

في هذه السنة خرج ملك الألمان من بلاده، وهم نوع من الفرنج، من أكثرهم عدداً، وأشدهم بأساً، وكان قد أزعجه ملك الإسلام البيت المقدس، فجمع عساكره، وأزاح علتهم، وسار عن بلاده وطريقه على القسطنطينية، فأرسل ملك الروم بها إلى صلاح الدين يعرفه الخبر ويعد أنه لا يمكنه من العبور في بلاده.
فلما وصل ملك الألمان إلى القسطنطينة عجز ملكها عن منعه من العبور لكثرة جموعه، لكنه منع عنهم الميرة، ولم يمكن أحداً من رعيته من حمل ما يريدونه إليهم، فضاقت بهم الأزواد والأقوات، وساروا حتى عبروا خليج القسطنطينية، وصاروا على أرض بلاد الإسلام، وهي مملكة الملك قلج أرسلان ابن مسعود بن سليمان بن قتلمش بن سلجق. فلما وصلوا إلى أوائلها ثار بهم التركمان الأوج، فما زالوا يسايرونهم ويقتلون من انفرد ويسرقون ما قدروا عليه، وكان الزمان شتاء والبرد يكون في تلك البلاد شديداً، والثلج متراكماً، فأهلكهم البرد والجوع والتركمان فقل عددهم.
فلما قاربوا مدينة قونية خرج إليهم الملك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان ليمنعهم، فلم يكن له بهم قوة، فعاد إلى قونية وبها أبوه قد حجر ولده المذكور عليه، وتفرق أولاده في بلاده، وتغلب كل واحد منهم على ناحية منها، فلما عاد عنهم قطب الدين أسرعوا السير في أثره، فنازلوا قونية، وأرسلوا إلى قلج أرسلان هدية وقالوا له: ما قصدنا بلادك ولا أردناها، وإنما قصدنا البيت المقدس؛ وطلبوا منه أن يأذن لرعيته في إخراج ما يحتاجون إليه من قوت وغيره، فأذن في ذلك، فأتاهم ما يريدون، فشبعوا، وتزودوا، وساروا؛ ثم طلبوا من قطب الدين أن يأمر رعيته بالكف عنهم، وأن يسلم إليهم جماعة من أمرائه رهائن، وكان يخافهم، فسلم إليهم نيفاً وعشرين أميراً كان يكرههم، فساروا بهم معهم ولم يمتنع اللصوص وغيرهم من قصدهم والتعرض إليهم، فقبض ملك الألمان على من منعه من الأمراء وقيدهم، فمنهم من هلك في أسره، ومنهم من فدى نفسه.
وسار ملك الألمان حتى أتى بلاد الأرمن وصاحبها لافون بن اصطفانة بن ليون، فأمدهم بالأقوات والعلوفات، وحكمهم في بلاده، وأظهر الطاعة لهم، ثم ساروا نحو أنطاكية، وكان في طريقهم نهر، فنزلوا عنده، ودخل ملكهم إليه ليغتسل، فغرق في مكان منه لا يبلغ الماء وسط الرجل وكفى الله شره.
وكان معه ولد له، فصار ملكاً بعده، وسار إلى أنطاكية، فاختلف أصحابه عليه، فأحب بعضهم العود إلى بلاده، فتخلف عنه، وبعضهم مال إلى تمليك أخ له، فعاد أيضاً، وسار فيمن صحت نيته له، فعرضهم، وكانوا نيفاً وأربعين ألفاً، ووقع فيهم الوباء والموت، فوصلوا إلى أنطاكية وكأنهم قد نبشوا من القبور، فتبرم بهم صاحبها، وحسن لهم المسير إلى الفرنج الذين على عكا، فساروا على جبلة ولاذقية وغيرهما من البلاد التي ملكها المسلمون، وخرج أهل حلب وغيرها إليهم، وأخذوا منهم خلقاً كثيراً، ومات أكثر ممن أخذ، فبلغوا طرابلس، وأقاموا بها أياماً، فكثر فيهم الموت، فلم يبق منهم إلا نحو ألف رجل، فركبوا في البحر إلى الفرنج الذين على عكا، ولما وصولا ورأوا ما نالهم في طريقهم وما هم فيه من الاختلاف عادوا إلى بلادهم فغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد.
وكان الملك قلج أرسلان يكاتب صلاح الدين بأخبارهم، ويعده أنه يمنعهم من العبور في بلاده، فلما عبروها وخلفوها أرسل يعتذر بالعجز عنهم، لأن أولاده حكموا عليه، وحجروا عليه، وتفرقوا عنه، وخرجوا عن طاعته.
وأما صلاح الدين عند وصول الخبر بعبور ملك الألمان، فإنه استشار أصحابه، فأشار كثير منهم عليه بالمسير إلى طريقهم ومحاربتهم قبل أن يتصلوا بمن على عكا، فقال: بل نقيم إلى أن يقربوا منا، وحينئذ نفعل ذلك لئلا يستسلم من بعكا من عساكرنا؛ لكنه سير بعض من عنده من العساكر، منها عسكر حلب وجبلة ولاذقية وشيزر وغير ذلك، إلى أعمال حلب ليكونوا في أطراف البلاد يحفظونها من عاديتهم، وكان حال المسلمين كما قال الله عز وجل: {إذ جَاءُوكُمْ من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً} الأحزاب 10- 11، فكفى الله شرهم ورد كيدهم في نحرهم.
ومن شدة خوفهم أن بعض أمراء صلاح الدين كان له ببلد الموصل قرية، وكان أخي، رحمه الله، يتولاها، فحصل دخلها من حنطة وشعير وتبن، فأرسل إليه في بيع الغلة، فوصل كتابه يقول: لا تبع الحبة الفرد، واستكثر لنا من التبن؛ ثم بعد ذلك وصل كتابه يقول: تبيع الطعام فما بنا حاجة إليه، ثم إن ذلك الأمير قدم الموصل، فسألناه عن المنع من بيع الغلة، ثم الإذن فيها بعد مدة يسيرة، فقال: لما وصلت الأخبار بوصول ملك الألمان أيقنا أننا ليس لنا بالشام مقام، فكتبت بالمنع من بيع الغلة لتكون ذخيرة لنا إذا جئنا إليكم، فلما أهلكهم الله تعالى وأغنى عنها كتبت ببيعها والانتفاع بثمنها.

.ذكر وقعة للمسلمين والفرنج على عكا:

وفي هذه السنة، في العشرين من جمادى الآخرة، خرجت الفرنج فأرسلها وراجلها من وراء خنادقهم، وتقدموا إلى المسلمين، وهم كثير لا يحصى عددهم، وقصدوا نحو عسكر مصر، ومقدمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وكان المصريون قد ركبوا واصطفوا للقاء الفرنج، فالتقوا، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانحاز المصريون عنهم، ودخل الفرنج خيامهم، ونهبوا أموالهم، فعطف المصريون عليهم، فقاتلوهم من وسط خيامهم فأخرجوهم عنها، وتوجهت طائفة من المصريين نحو خنادق الفرنج، فقطعوا المدد عن أصحابهم الذين خرجوا، وكانوا متصلين كالنمل، فلما انقطعت أمدادهم ألقوا بأيديهم، وأخذتهم السيوف من كل ناحية فلم ينج منهم إلا الشريد، وقتل منهم مقتلة عظيمة، يزيد عدد القتلى على عشرة آلاف قتيل.
وكانت عساكر الموصل قريبة من عسكر مصر، وكان مقدمهم علاء الدين خرمشاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل، فحملوا أيضاً على الفرنج، وبالغوا في قتالهم، ونالوا منهم نيلاً كثيراً، هذا جميعه، ولم يباشر القتال أحد من الحلقة التي مع صلاح الدين، ولا أحد من الميسرة، وكان بها عماد الدين زنكي، صاحب سنجار، وعسكر إربل وغيرهم.
ولما جرى على الفرنج هذه الحادثة خمدت جمرتهم، ولانت عريكتهم، وأشار المسلمون على صلاح الدين بمباكرتهم القتال، ومناجزتهم وهم على هذه الحال من الهلع والجزع، فاتفق أنه وصله من الغد كتاب من حلب يخبر فيه بموت ملك الألمان، وما أصاب أصحابه من الموت والقتل والأسر، وما صار أمرهم إليه من القلة والذلة، واشتغل المسلمون بهذه البشرى والفرح بها عن قتال من بإزائهم، وظنوا أن الفرنج إذا بلغهم هذا الخبر ازدادوا وهناً على وهنهم وخوفاً على خوفهم؛ فلما كان بعد يومين أتت الفرنج أمداد في البحر مع كند كبير من الكنود البحرية يقال له الكند هري ابن أخي ملك إفرنسيس لأبيه، وابن أخي ملك انكلتار لأمه، ووصل معه من الأموال شيء كثير يفوق الإحصاء، فوصل إلى الفرنج، فجند الأجناد، وبذل الأموال فعادت نفوسهم فقويت واطمأنت، وأخبرهم أن الأمداد واصلة إليهم يتلو بعضها بعضاً، فتماسكوا وحفظوا مكانهم، ثم أظهروا أنهم يريدون الخروج إلى لقاء المسلمين وقتالهم، فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الخروبة في السابع والعشرين من جمادى الآخرة، ليتسع المجال، وكانت المنزلة قد أنتنت بريح القتلى.
ثم إن الكند هري نصب منجنيقاً ودبابات وعرادات، فخرج من بعكا من المسلمين فأخذوها، وقتلوا عندها كثيراً من الفرنج؛ ثم إن الكند هري بعد أخذ مجانيقه أراد أن ينصب منجنيقاً، فلم يتمكن من ذلك لأن المسلمين بعكا كانوا يمنعون من عمل ستائر يستتر بها من يرمي من المنجنيق، فعمل تلاً من تراب بالبعد من البلد.
ثم إن الفرنج كانوا ينقلون التل إلى البلد بالتدريج، ويستترون به، ويقربونه إلى البلد، فلما صار من البلد بحيث يصل من عنده حجر منجنيق، نصبوا وراءه منجنيقين، وصار التل سترة لهما، وكانت الميرة قد قلت بعكا، فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمرهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا، فتأخر إنفاذها، فسير إلى نائبه بمدينة بيروت في ذلك، فسير بطسة عظيمة مملوءة من كل ما يريدونه، وأمر من بها فلبسوا ملبس الفرنج وتشبهوا بهم ورفعوا عليها الصلبان، فلما وصلوا إلى عكا لم يشك الفرنج أنها لهم، فلم يتعرضوا لها، فلما حاذت ميناء عكا أدخلها من بها، ففرح بها المسلمون، وانتعشوا وقيت نفوسهم، وتبلغوا بما فيها إلى أن أتتهم الميرة من الإسكندرية.
وخرجت ملكة من الفرنج من داخل البحر في نحو ألف مقاتل، فأخذت بنواحي الإسكندرية، وأخذ من معها، ثم إن الفرنج وصلهم كتاب من بابا، وهو كبيرهم الذي يصدرون عن أمره، وقوله عندهم كقول النبيين لا يخالف، والمحروم عندهم من حرمه، والمقرب من قربه، وهو صاحب رومية الكبرى، يأمرهم بملازمة ما هم بصدده، ويعلمهم أنه قد أرسل إلى جميع الفرنج يأمرهم بالمسير إلى نجدتهم براً وبحراً، ويعلمهم بوصول الأمداد إليهم، فازدادوا قوة وطمعاً.